المنطقة الرمادية
سمعت استشارة مرة في العيادة وأنا طالبة، ولفتني رد المستشارة على التي تستشيرها في أمرٍ أشكلَ عليها.. فقد كان رد المستشارة: (أنتِ ما حطيتي لنفسك الآن إلا خيارين، يا أبيَض يا أسوَد، وحصرتي نفسك بين لونين فقط.. دائمًا فيه منطقة رمادية بالوسط، واللون الرمادي جميل، ودرجاته كثير!)
لا أذكر شيء من بقيّة الاستشارة، ولكن هذه العبارة ظلّت عالقة في ذهني لسنوات..
بدأت بتطبيق مبدأ الأبيض والأسود على كل ما أتأمله في حياتي
العلاقات، القرارات، المشكلات، وغيرها
في القرارات مثلًا، من أول القرارات التي يتخذها الإنسان بنفسه في حياته هو قرار التخصص، فكثيرًا ما نسمع عبارة (يا طب يا ما أدخل جامعة أصلًا)
والمنطقة الرمادية هنا هي أي تخصص آخر مُتاح له ويتناسب مع رغباته، حتى لو لم تكن بنسبة 100%
فتخصص غير مطابق لرغبتي بشكل تام أفضل من ألا أدرس من الأساس – حديثي هنا طبعًا بعد أن يبذل الإنسان وسعه وتستفذ كل الوسائل من بين يديه فلا يكون الطب أو الهندسة وغيرها من رغباته خيارًا متاحًا له-
وفي المشكلات، مثلًا قد يكون لديك عشرة حلول للمشكلة التي تواجهها، ولكن واحد فقط من هذه الحلول الحل المُرضي بالنسبة لك بنسبة 100%، فأنت تتجاهل جميع الحلول التي قد تكون مُرضية لك ولكن ليس بشكل كامل، وتحصر نفسَك بين حلّين فقط، فإما أن يُحّل الموضوع كما أريد تمامًا فأكون راضيًا وسعيدًا، أو ألا يحل أصلًا فأكون غير راضي.
ولو فكرت بالموضوع بطريقة منطقية، حل مُرضي بنسبة 70% أفضل من لا حل!
عندما فكرّت بهذا الموضوع بعُمق، خرجت بما أسميه بالـ (منطقة الرمادية)
المنطقة الرمادية متأكدة أن كثير منا يعيشها في جانب أو أكثر في حياته..
مثلًا:
- أدرس في الجامعة (أبيض) + تخصص لا أحبه (أسود) = رمادي
- تخرجت (أبيض) + لم أحصل على وظيفة (أسود) = رمادي
- توظفت (أبيض) + في منطقة بعيدة (أسود) = رمادي
- لدي الكثير من العلاقات (أبيض) + ليس لدي صديق حقيقي (أسود) = رمادي
- متزوج (أبيض) + زواج ليس كما توقعت وخططت (أسود) = رمادي
- لدي أطفال (أبيض) + أطفال لديهم مشاكل صحية أو غيرها (أسود) = رمادي
في نمط التفكير هذا (يا أبيض يا أسود) تغيب موضوعية التقييم، ويخفت صوت العقل، فالعيش بالمنطقة البيضاء مستحيل تمامًا وأستدل هنا بـ (لقد خلقنا الإنسان في كبد)، فالرضا التام لن يكون إلا بالجنة -رزقنا الله إياها ومن نحب-
وإن علمنا أن العيش بالمنطقة البيضاء في كثير من الأمور لن يحصل، هل سنحصر أنفسنا في المنطقة السوداء؟
لو حصرت نفسي في هذه المنطقة السوداء الداكنة، فلن أقبَل بأي تخصص ما دمت لا أحبّه تمامًا، ولن أقبل بأي وظيفة لا تستوفي شروطي، ولن أقبل بأي علاقة إلا أن تكون صداقة قوية، حتى لو كانت الزمالات الجيدة موجودة، وإن رُزقت بأطفال مع بعض المشكلات فيكون تركيزي على المشكلات أكثر من استشعاري لنعمة الأطفال.. إلخ
إذًا.. إذا عرفت أن معظم حياتي ستكون ضمن نطاق المنطقة الرمادية.. كيف أرضى؟ كيف أتقبّل؟
قبل التركيز على الإيجابيات، واستشعار الجوانب المشرقة من كل أمر،
هناك مسلّمات في ديننا لو تذكرناها وطبقناها على كل موقف سترضى أنفسنا وتطمئن، بل قد تسعَد بالمنطقة الرمادية إذا كانت قد وصلت لتمام الرَضا والتسليم -بعد بذل جميع الأسباب المتاحة-
فإذا تعبت واجتهدت بدراستي، ولكن لم أحصل على ما أريد -من تخصص أو وظيفة-
فأنا هنا مؤمنة بقول الرسول ﷺ بالحديث الصحيح: (واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمعت على أن ينفعوكَ بشيءٍ ، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروكَ بشيءٍ ، لم يضروكَ بشيءٍ إلا قد كتبه اللهُ عليكَ ، جَفَّتِ الأقلامُ ورُفِعَتِ الصُّحُفُ)
وأنا هنا عندما أذكُر التخصص، لأني أُحاول أن آتي بمثال واقعي من حياة الكثير، وعليه نقيس كل أمور الحياة من أرزاق، زواج، وظيفة، أطفال.. تخيّل مدى اطمئنانك لو مضيت في هذه الحياة متخذًا كل ما بوسعك من أسباب، ومستعينًا بالله.. ولكنك في الوقت ذاته مؤمن بأنك لا تملك لنفسك نفعًا ولا ضرًا، ولا يملكه لك أي أحد، وكل من يكونون في طريقك هم أسباب سخرّها الله لك أو عليك ليُنفذ أمره وليصل إليك رزقك الذي كتبه لك..
وتخيّل كيف ستنتقل بنفسك من المنطقة الرمادية الداكنة والأقرب للسوداء إلى المنطقة الرمادية الفاتحة والأقرب للبياض (لأن للون الرمادي درجات كثيرة) عندما لا تنتظر الكمَال في كلِّ أمورك، وتستمتع بما بين يديك، وتطمئن وترضى.. وتحمَد الله سبحانه وتعالى على ما وهبك، وترضى بما لم يهبك فهو الذي يدبّر الأمر، وكما أن في عطائه خير، فإن الخير في منعه سبحانه قد يكون أعظم!
ديننا أعطانا الكثير من الضمانات والمًسلّمات التي تمنحنا كلًا من الصلابة النفسية، والمرونة النفسية في آنٍ واحد..
وحتى أن بعض ما توّصل إليه علم النفس الغربي اليوم من طُرق لتخفيف عبء الأثقال النفسية على البشر من تأمُّل وغيرها كانت موجودة في كتابنا، فالتأمُّل -الذي هو اليوم إحدى وسائل العلاج النفسي- هو عبادة في ديننا منذ مئات السنين (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)
المنطقة الرمادية يعيش فيها الناس منذ أن خلقت البشرية، ولا نستطيع لوم أي أحد يعيش في هذا الزمَن على عدم تقبّله للمنطقة الرمادية والبحث عن حلول بديلة تصل به إلى المنطقة البيضاء التي يطمح لها، وعندما لا يصل لها يصيبه الشعور بالإحباط والفشل، فزمننا اليوم ليس كباقي الأزمنة، بواعث القلق فيه كثيرة جدًا، وأبسطها وسائل التواصل الاجتماعي التي جعلتنا مُطلّعين على كل حياة من حولنا، وبالتالي ندخل في سلسلة لا منتهية من المقارنات وعدم الرضا.. إلخ -وهذا غير مُتعمَّد بل يحدث من غير إدراك من الشخص-
لكن ما الذي نملكه بين أيدينا؟
هو أن نؤمن أنه كوننا مُسلمين، نحنُ نستد على ركنٍ ثابت يمنحنا كل مقوّمات الصلابة والمرونة النفسية..
فنسعى في هذه الحياة بكل جهد، ونتوكل على الله، مؤمنين بقضائه، وراضين بأرزاقه..
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾
فجر الدليجان
تعليقات
إرسال تعليق