نقطة التغيير والتحوّل: أطول سجود في حياتي.


اليوم السابع، من شهر ذو القعدة، عام 1436 هـ.. اليوم الذي لا زلت أتذكر كل تفاصيله، وكأنه الأمس. اليوم الذي حُفرت كل مشاعره على جدار قلبي، فما أن تطرؤ عليّ إحدى أحداثه، إلا ويُلازمها كل شعور أحسست به حينها، وكأنه بالأمس، وليس من قبل أربعة أعوام.
ففي غضون ليلة واحدة فقط، حدثت نقلة نوعية في حياتي، أخذتني من كوني طالبة في المرحلة الثانوية، مُعتادة على نمط حياة واحد، في بيتها وبين أُسرتها، تنام على سريرها الذي لم تفارقه لسبع عشرة عامًا، إلى طالبة في المرحلة الجامعية في العمر ذاته، ولكن.. مُغتربة في مدينة للمرة الأولى تزورها، وهي نفس المرة التي ستعُيشُ بِها في هذه المدينة، لتدرس أصعب التخصصات، ولتبدأ بعد ساعات حياتها الجديدة التي لم تجلب معها إليها أي شخص من حياتها السابقة! 
الناسُ جدد، والأهل غائبون، والدعم تلاشى، وكل الأشياء التي أعرفها اختفت، لأُحاط بالغربة من كل اتجاه، فمن غربة المكان، ثم غربة الشعور، إلى غربة القلب والروح.
مع كل حركة لعقارب الساعة، كان الخوف يزداد، فأعتقد أن ما شعرت بهِ تلك الليلة كان كافيًا، ولم أكن مُستعدة لمواجهة الصباح، وأنا تلك التي تُحب الشروق مثلما لم يحبه أحد، ولا أعتقد أن قلبي الضعيف كان قادرًا على تحمل كل هذه المشاعر، في يوم واحد فقط!
أنا هُنا لا أتحدث عن إنتقالٌ من منزل إلى مكان آخر فقط، أنا هُنا أتحدث عن إسكان يفتقد أبسط مقومّات الحياة الطبيعية، فما زلتُ أتذّكر المرة الأولى التي فتحت فيها أدراج المطبخ، أتذكر كل الحشرات، بكل ألوانها وأشكالها، ومازلت أتذكر السرير الذي حركته فانكسر، والنافذة التي لا ستار عليها، والكهرباء المقطوعة، والفرن العطلان، والمكيف الذي لا يعمل..
بحثتُ عن صديقاتي، فلم أجد منهن أحدًا.. ومن أتوقع أنها ستكون متوفرة لي في الساعة الثالثة صباحًا أصلًا؟
بحثتُ عن إخواني، ثم استوعبت أني تركتهم عند مفترق طرق، لأن مساري اختلف الآن عنهم.
بحثتُ عن أمي.. وللمرة الأولى، لم أستطع أن أجد أمي..
تمر الساعة، الساعتين، الثلاث ساعات.. حتى يُعلن تطبيق الصلاة في هاتفي عن دخول وقت صلاة الفجر، مازلت أتذكر وضوئي السريع، وإشتياقي للصلاة وكأنها المرة الأولى التي أُصلي فيها في حياتي!
مازلتُ أتذكر تعجلي في قراءة الفاتحة وتلهفي للسجود.. أشعر بأن كل قوة الجاذبية الأرضية في هذا الكون، كانت تجذب رأسي نحو الأرض، لأخُرَّ للقوي، الباقي، العزيز، من بيده قلبي، ومن بيده كلّ أمري.. ذاك السجود الذي امتدّ لما يُقارب الثلاثون دقيقة، دون أن أستطيع ترتيب دعوة واحدة! فكل ما كنتُ أردده: "يارب".
يارب.. ثم تتبعثر كل الكلمات. يارب.. ثم تضيع كل الحروف. يارب.. ثم تجتمع المخاوف، فلا أعرف من أين أبدأ. يارب.. ثم تتزاحم الأماني.. يارب وأنا العبدُ الذي كان يحسُب أنه قويًا.. وهو لا يملك لنفسه نفعٌ ولا ضر، وكل أمره بين يديك..
ثُمّ أحاول أن أرفع رأسي، ولكنّ الثقل الذي كان يحمله كان أكبر من قوتي على رفعه، فظلّ ساجدًا، وهو الذي أيقن أن لا مفر من هذا الألم، لا مفر من هذا الخوف.. إلا إلى الله -سبحانه وتعالى-!
تمرُ الأيّام.. وثقلها يزداد، وأنا التي لم أظن أني بضعفي سأستطيع أن أظل واقفة، صامدة، بوجه كل ما يعصُف بي.. يمر الشهر، السنة.. السنتان، ولم أسقط بالرغم من كل ما حدث، وبالرغم من طول الأيام! وأنا التي أسقطني يومًا صعبًا واحدًا من قِبل! ما الذي حدث؟
كيف تغيّرت للحياة نظرتي؟ كيف اكتسبت مهارة رسم نهاية جميلة في خيالي لكل موقفٍ قاسٍ يمر بي؟ كيف أصبحتُ أُعرّف كمصدرٍ للإيجابية، وأنا التي كنتُ أشعرُ بالسلبية تُحيط بي من كل صوبٍ وجانب؟ كيف وقفت باللحظة التي كان من المفترض فيها أن أسقط، وكأن هُناك ألفُ يدٍ تسندني؟
إنه ذاك النداء، الذي بحثتُ بهِ عن صديقة، أخ، أم، أب.. فوجدتني بين يدي الله.
إنها تلك اللحظة، التي فهمت فيها معنى أن الله سبحانه هو الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم.. اللحظة، التي أيقنتُ وآمنت بها، أن ركنُ الله باقٍ لا يضيق.. التي سكن بها حُبه قلبي.. واللحظة التي استشعرت بها مدى قربه من عبده، وحُبّه لسماع صوت ندائه ومناجاته..
إنها اللحظة الأقسى، إنها اللحظة الأعظم، إنها اللحظة الأجمل!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

للأطباء المُقبلين على السنة الأولى في البورد السعودي لطب الأسرة، وأطباء الإمتياز المُهتمين بتخصص طب الأسرة..

مدرسة شرق لتعليم قيادة المركبات

جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل (الدمام)، وجامعة الملك فيصل، الفرق بين تجرتين ثريتين! (تدوينة للطلبة الراغبين بالتحويل)