لا تفقد نفسك!
نكبُر وتكبر فينا أحلامًا، سقاها تشجيع والدينا، إصرار اكتسبناه من مصدرٍ قد يكون معلومًا أو مجهولًا، ورغباتنا الداخلية بأن نكون "شيئًا" يُذكر في عالمنا الصغير. ولكن، ماهو تعريف "الشيء" لدى كل شخص في هذا العالم؟
إنّه تعريفٌ متغير بتغير عوامل عديدة تحكمه، أولها العمر، والذي بدوره يحكم عوامل عديدة أخرى أيضًا، تصوّر في غاية التعقيد.
فكطفل عادي في المرحلة الإبتدائية، أقصى طموحاته هو أن يكون في المرحلة المتوسطة، وما إن يبلغ المرحلة المتوسطة، حتى يعي بساطة طموحه، فيكون لديه حلم أكبر، بالتخرج من المرحلة الثانوية، والإلتحاق بتخصص مناسب، وما إن يلتحق بالتخصص المناسب حتى تبدأ طموحاته تكبر وتختلف وترتسم تبعًا لمساره الذي إختاره لنفسه، فإن اختار أن يكون طبيبًا تراه يسعى جاهدًا لتكون له بصمة في الطب وفي الأبحاث العلمية والتجارب، وإن اختار أن يكون رائد أعمال فإنه يبدأ برسم أحلامًا كبيرة تُناسب الإمكانيات الواسعة التي يتيحها له التخصص، وإن أختار أن يكون مهندسًا تراه يحاول فتح مكتبه الخاص أو على الأقل يحلم بذلك. حتى إذا انتهى به المطاف لنهاية غير التي كان يحلم بها، لا يزال حلمًا ينبض بداخله، يكبر، لا ينتهي، ولا حتى يتلاشى. نستمر في الركض وراء أحلامنا، لتقودنا إلى طريقٍ من اثنين، إما عدم تحقيقها، والذي غالبًا ينتهي بالألم والعيش على أحلام لم تتحقق، وإما تحقيقها، والذي غالبًا ينتهي بنا إلى أحلامًا أكبر، ثم آلامًا أخر، إذ أن الظروف لن تكون بصالحنا طيلة العمر، وليس هناك شيء يؤكد لنا إن كان "جميع" مانحلم به سيتحقق أم لا. أقرب وصف يصف سعينا وراء أحلامنا هو مطاردة شيء يتكاثر، ما إن نمسك بطرفٍ منه حتى ينمو منه طرف آخر، فيكون شيئًا أكبر، يتطلب منا المزيد من السعي، كي نقبض عليه كاملًا، وتنتهي الدنيا ونحنُ لم ننتهي.
وعلى طول هذا الطريق نلتقي بأشخاص كُثر، زملاء، أصدقاء، وتصنيفات أخرى. إحداهم يستمر معك طيلة الطريق، فيكون لك خير رفيق، لكن لأن طبيعته البشرية لن تمنحه قدرة خارقة على البقاء معك دائمًا، سيبتعد، وستتألم كثيرًا، بقدر جمال الأيام التي عشتماها معًا، وبعمق صدق مشاعرك. وشخصٌ آخر سيتخلى عنك في بداية الطريق، وهذا الشخص لا يستحق اللوم بقدر الإمتنان، لأنه لم يصنع معك ذكريات يصعب نسيانها، بل انسحب بهدوء قبل أي شيء. وآخر، ستظنه رفيق العمر، سيرافقك حتى منتصف الطريق، ثم ينسحب بلا سبب يذكر، أو لسبب يصعب على عقلك وقلبك تصديقه، فيذهب تاركًا خلفه ألف "ليه". المهم أنها ستأتي عليك ليالي، تدرك فيها جيدًا، أنه في هذا الكون الواسع جدًا، لن يرافقك في كل رحلتك، إلا شخص واحد، وهذا الشخص هو من يستحق الحُب والإهتمام والتضحية، هو (أنت)! ولكني أخشى أن تُدرك ذلك متأخرًا، بعد أن تفوتك فرص، أو تُرهق نفسك بمشاعر لمن لم ولن يستحقها، أو يصيبك مرضًا ما، أو تكون على فراش الموت، وتتمنى العودة لإعطاء نفسك حقها من الحُب، وألا تبالغ بحبك وإهتمامك لمن لا يستحق، أيًا كان!
ثم إن في هذا الطريق سترى من الموقف ما يسّرك، ولكن أيضًا سترى الكثير مما يحزنك، ويؤرقك، وبعض مايؤرقك لن يستطيع أحدًا فهمه أبدًا، ثم سيؤرقك أكثر، حتى تشعر بأن روحك أصبحت هشّة جدًا. هشة لحد أن يؤثر فيها أي شيء، فتتحطم تمامًا، حتى لا يؤثر فيها شيئًا مرة أخرى، فتحسب أنك تحطمت، وفي الحقيقة أنتَ تُبنى من جديد، فما نحنُ عليه اليوم، هو خليط من مواقفٌ عشناها، أشخاصٌ مررنا بهم، أفراح أبهجتنا، وأحداث أُخرى كسرتنا. وبعد هذه الرحلة الطويلة كلها، حينما تُبنى من جديد، وتمدّ بقوة لا تعلم من أين، تكتشف بأن خيانة صديقك لم تُنقص منك شيء، وفشلك لم يحطمك، وفي الحقيقة، أنتَ كنت تحمل معك القوة لكل ألمٍ ألمّ بك. فهل يكلف الله نفسًا إلا وسعها؟ وكيف يُحرم مؤمنًا ورزقه في السماء، لا يمنعه عنه أهل الأرض جميعًا؟ وكيف يُكسر مؤمنًا قوته من الله وحده، لا من عبيده على هذه الأرض؟
الأهم! هو ألا تفقد مصدر قوتك، واستمرارك، ألا تغويك شياطين الجن أو الإنس فتبتعد عن فطرتك التي فطرك الله عليها في زمن تتكالب عليك فيه الفتن من كل جانب، في زمن قبضتك فيه على دينك كقبضتك على جمرة تستعر.
المهم هو ألا تفقد نفسك زحام الطريق! وكي لا تفقد نفسك.. لا تفقد الله.
تعليقات
إرسال تعليق