أنت البياض..
كأي إنسان يتقلب مزاجه بين الحين والآخر، كان يوم أمس الأثنين يومًا طويلًا بالنسبة لي.. تسائلت فيه مرات عديدة، ما الذي يدفعني للإستمرار؟
أن تكون إنسانًا معطاءً، يعني أنك تعمل ساعات طويلة، بل عمرًا كاملًا، ثم تلفت فجأة.. وترى أنك لا تمتلك شيء! فلا يوجد شيء من ممتلكاتك يخصك وحدك، حتى وقتك وجهدك، بل حتى مشاعرك.. كلها تعودّت مشاركتها..
أن يسكن العطاء فيك يعني أن تأخذ جزءًا من عمرك، تقدمه لأشخاص آخرين، ويكفيك كل هذا العناء ابتسامة من أحدهم، أو دعوة من آخر..
اليوم الثلاثاء كانت المرة الأولى التي أفحص بها مريضًا حقيقيًا، منذ أول لحظة دخلت فيها إلى المستشفى.. كنت اتأمل الأسرّة البيضاء، تلك الأسرّة التي تعودت تأملها منذ أيام الثانوية.. تلك الأسرّة التي تصوّرها وتصوّر من عليها كان الدافع الأول لإلتحاقي بهذا المجال، ولكن هذه المرة كنت اتأملها بعين أخرى.. لم أعد أنظر لتلك الأسرّة كأمنية أن أقف بجانبها، هذه المرة كنت أنظر لهذا السرير على أنني "فعلًا" سأقف بجانبه بعد دقائق أمام مريض حقيقي قد يكون هذا اليوم من أسوء الأيام في حياته كلها.. يجب أن أكون حريصه على كل كلمة، لطيفة بكل تصرف، خفيفة بفحصي له..
كلما دخلت المستشفى اسأل نفسي سؤال "هل سيعلم مرضاي في المستقبل كم أحبهم؟" ، أنا لست أنا التي اعتدت عليها أمام ذاك المريض، كل مشاعر العطاء تتدفق في هذه اللحظة..
أخبرت صديقتي بأني أتمنى لو أستطيع أن أعطيهم كل شيء أستطيع إعطاؤهم إياه، ردّت: "يافجر تقدرين تعطينهم عمرك كله"
تأملت الغرفة، السرير الأبيض، التلفزيون، وطاولة الغداء التي بجانب المريض.. كأني أراهم لأول مرة مع أني رأيتهم مرات كثيرة من قبل، حاولت أن أنظر للحياة بعين هذا المريض، ثم تأملت البالطو الأبيض الذي ارتديه، هل ياترى هو أبيض ليدلّنا على شيء ما؟ هل نستطيع أن نقتبس بعضًا من هذا البياض، وإهداؤه لمرضانا؟
أن تكون طبيبًا "إنسانًا"، يعني أن يسري العطاء في دمك، شفراته موجودة بين جيناتك، تُترجم دائمًا بعطاءك، وابتسامتك التي تبتسمها بعد ليلة طويلة وليست سهلة.
تضع كل ما يُرهقك خارج المستشفى، تلملم شتاتك، تستجمع نفسك، وتصبح قويًا حتى لو لم تكن كذلك، لأنك أنت الأمل، أنت القوّة "بعد الله"، ببياضك الذي ترتديه، أعينٌ كثيرة تترقب دخولك عليها، تنتظر منك أن تطمأن قلوبهم، أو أن تخفف من ألمهم قليلًا.. أنت البياض بالنسبة إليهم، في لحظة غيّم السواد على كل شيء حولهم.. أنت الحياة..
يجب أن تتقن كيف تزرع الفرحة في وسط الحزن، و كيف تولد الإبتسامة من رحم الألم..
اللهم قدّرنا على تحمل هذه المسؤولية والأمانة على أكمل وجه، واجعل على يدينا الشفاء والدواء
فضفضة مابعد أول فحص لمريض
6\2\2018
تعليقات
إرسال تعليق