التحكّم مجرّد وهم، والمستقبل بطبيعته مجهول.

 

هُنا «فجر»، التي طالما دعت الله أن يكون لها من اسمها نصيب، فتكون فجرًا يُزيح الظلمة عن نفسها أولًا، ثم فجرًا مشرقًا على كل من حولها ثانيًا.

في الثالث من مارس عام 2019، أنعم الله عليَّ بأن أكون دُرّة جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل، وطلبوا مني يومها أن أُلقي كلمة دُرَّة الجامعة. ختمت كلمتي بعبارة ما زالت تتردّد في داخلي حتى اليوم:

"غدًا سأُشرق، مثل فجرٍ ثانٍ.."

واليوم، وأنا أنظر إلى مسيرة الأعوام التي تلت، أرى استجابة دعوتي تلك تتجلّى أمامي بوضوح.
كثيرون يسألونني: كيف أستطيع تحقيق عدد من الإنجازات في عمرٍ صغير؟ كيف أفكر بإيجابية؟ كيف أواصل السعي؟

وجدت جوابي في تعليقٍ بسيط، قالته أمي الغالية وسط حديثٍ لم يكن له علاقة بالموضوع أصلًا، حين نظرت إليّ بابتسامةٍ وقالت:

"يعجبني فيكِ إصرارك، ما شاء الله تبارك الله، عمرك ما وقفتي سعي واجتهاد."

كانت جملة عابرة... لكنها أصابت قلبي. توقفت عندها طويلًا، وتأملت كيف أن بين السبب والنتيجة دائمًا مساحة غامضة تُسمّى "المجهول".

من الفلسفة القديمة إلى علم الأعصاب الحديث، ومن فيزياء الكم إلى دروس الدين، تتكرّر الحقيقة ذاتها:
التحكّم مجرّد وهم، والمستقبل بطبيعته مجهول.

تعلمنا في فيزياء الكم أن الواقع يقوم على «الاحتمالات»، ومن رجال الأعمال بأن الأسواق غير قابلة للتنبؤ، وأن الإيمان الحق هو أن نسلم أمرنا لله، راضين بقدره خيرًا كان أم شرًّا.
نحن نُصلي الاستخارة لأننا نعترف بأننا لا نملك التحكم، ونُفوّض الأمر لمن بيده كل الأمر. إنها ذروة التسليم، وراحة القلب في عالمٍ مليء بالاحتمالات.

كل إنجاز بشري عظيم بدأ بخطوةٍ نحو المجهول.
عدم معرفة النتائج هو الحالة الطبيعية للحياة، ومقاومة هذه الحقيقة هي ما يولّد القلق والمعاناة.

كل إنجازات البشرية منذ أن خُلقت، كان فيها الإنسان يسعى ويمضي قُدمًا دون أن يعرف النتيجة.
عدم معرفة النتائج "المجهول" هو الحالة الأساسية للواقع، ومحاولتك في مقاومة هذا المجهول هي ما يخلق المعاناة.
وهذا ما يسميه الفلاسفة القدماء "الانزعاج الطوعي"، وما يسميه علم النفس الحديث "العلاج بالتعرض التدريجي"، وما يسميه رواد الأعمال والعامة أحيانًا "الاعتياد على عدم الراحة".
فمن خلال التعرض المتكرر والمقصود لمواقف تُشعرك بالقلق دون أن يحدث بعدها شيء سيئ، تتعلم كيف تسعى دون معرفة النتائج، وتصبح هذه حالتك الطبيعية: السعي.

لكن قبل أن نتعلم من الفلاسفة والعلماء، يكفينا أن ننتمي لدينٍ علّمنا مبدأ "اعقلها وتوكّل"، ودعانا إلى الإيمان بالقدر، وحُسن الظن بالله، والاستخارة في كل أمر.
كلها عبادات تُحرّرنا من ثِقل المجهول، وتُذكّرنا أن ما كُتِب لنا لن يُخطئنا، وأن التفكير الدائم في المستقبل لا يجلب إلا المعاناة.

الإيمان إذًا ليس رفاهية روحية وليس حصرًا للمتدينين، بل حاجة إنسانية وحقٌ لكلِ مُسلِم مهما بلغ تقصيره.
فحتى غير المؤمنين يبحثون عن شيء يُسلّمون له، نارًا كانت أو صنمًا أو رمزًا، لأن النفس لا تحتمل احتمالات الحياة وحدها.
أما نحن، فالحمد لله الذي جعل هذا التسليم عبادةً تقرّبنا إليه.

هل يكفي السعي؟
لا.
السعي وحده دون معنى يجعل الحياة مرهقة، كمن يركض في دائرة مغلقة.
الحياة لا تكتمل إلا بمعنى تختاره أنت، معنى يضيف لقلبك قيمة ويمنحك سببًا للاستمرار حتى حين تثقل الأيام.

أما أنا، فقد اخترت أن يكون الإحسان هو المعنى الذي أعيش به ولأجله.
فأنا اخترت أن أُحسِن في كل ما أعمله، ابتداءً من إحساني مع نفسي فأتخيَر لها من القِيَم أنبلها، ومن الأصحاب أصلحهم، ومن الأهداف أسماها، انتهاءً بإحساني في عملي.

كم من مرةٍ ذهبت إلى عملي وقلبي يحمل ثقل العالم، لكني استجمع كل ما وهبني الله إياه من حُبٍ ورعايةٍ واهتمامٍ وعلمٍ ومبدأ، فأُجبر نفسي على ابتسامة لا أعنيها حقًا، أو قولٍ إيجابي لا أشعر به أبدًا.
وفي نهاية اليوم، أجد أن تلك الابتسامة التي تصنّعتها في البداية، أصبحت حقيقية.
لأن الطبع ما جاهدت نفسك عليه، يصبح طبعك في النهاية.

هكذا فهمت أن "الفجر" ليس لحظة زمنية فحسب، بل حالة داخلية.

ربما لن يكون الطريق واضحًا دائمًا، لكن النور الذي نحمله يكفينا لنخوضه بثقة.
فكل مرة نختار فيها السعي رغم المجهول، والإحسان رغم التعب، والإيمان رغم الغيب: نحنُ نشرق من جديد.
فالحمدلله على كل ليلٍ عبرته، وعلى كل فجرٍ منحني يقينًا وثباتًا أعمق من قبل
.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مدرسة شرق لتعليم قيادة المركبات

للأطباء المُقبلين على السنة الأولى في البورد السعودي لطب الأسرة، وأطباء الإمتياز المُهتمين بتخصص طب الأسرة..

جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل (الدمام)، وجامعة الملك فيصل، الفرق بين تجرتين ثريتين! (تدوينة للطلبة الراغبين بالتحويل)